[tr][td class=hr colspan="2"][/td][/tr][tr][td colspan="2"]التربية والتعليم والعنف المدرسي
--------------------------------------------------------------------------------
ان العنف كظاهرة اجتماعية بارزة يتجلى في مختلف القطاعات الاجتماعية. فهناك العنف الاسري والعنف المهني والعنف الجنسي والعنف المدرسي.
لا شك ان العنف المدرسي يندرج تحت ظاهرة العنف ككل، وكما نجد بين عوامل العنف ومظاهره ما يختص ببيئة معينة او بلد معين، فإننا واجدون بين هذه العوامل والمظاهر أيضاً ما هو مشترك بين كل البيئات والبلدان وما هو مشترك بين بعضها.
وسنتناول في بحثنا ظاهرة العنف المدرسي، ومدى ارتباطها بالتربية العائلية والتعليم المدرسي، كمدخل لفهم بعض جوانب هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة، وذلك بالتركيز على دراسات حديثة حول العنف المدرسي في فرنسا، ويحدد الباحث الفرنسي جاك دو باكييه العنف المدرسي على أنه "تعدٍّ قاس على نظام المؤسسة المدرسية وخرق للقواعد المتبعة في الحياة الاجتماعية". ويأخذ هذا العنف برأيه اشكالاً مختلفة، هذه بعضها:
- إحداث فوضى في الصف عن طريق الضحك والكلام واللعب وعدم الانتباه.
- المشاجرة بين التلاميذ:
واحد ضد واحد ومجموعة ضد مجموعة.
- التغيب المتمادي عن الصف.
- ابتزاز المال بالتهديد.
- الكلام السفيه والتحريض على الشغب.
- الافعال المؤذية:
من الكتابة المؤذية على الجدران الى الحرائق المعتمدة.
- العنف ضد الاشخاص: المعلم تجاه التلميذ والتلميذ تجاه المعلم والاهل تجاه المعلمين
ويؤخذ على الدارسين الفرنسين ضعف كبير من جهة قياس ظاهرة العنف المدرسي بالنسبة الى دراسات جرت في بلدان أخرى في هذا النطاق، غير ان وزارتي العدل والداخلية باشرنا تسجيل إحصاءات منذ العام الدراسي 1993 ـ 1994 بعد ان واجهتنا صعوبات لعدم صراحة المسؤولين والمدرسين في إعطاء معلومات حفاظاً على سمعة مؤسساتهم.
وامام ظاهرة العنف المدرسي وارتفاع وتيرتها، اضطرت الدولة الفرنسية عام 1992 عن طريق وزير التربية جاك لانغ الى تشريع دخول رجال الامن الى المدارس للتصدي وللحد من هذه الظاهرة، أما بالنسبة الى رأي الاهالي حول وجود رجال أمن في المدرسة، فقد بينت الاحصاءات التي أجريت في 24/1/2000 ان 40% مـن الاهالي يؤيدون وجود رجال الامـن و60% لا يحبذون ذلك. كما أظهرت احصاءات وزارة التربية الوطنية عام 1995 ان 24% من الطلاب يعتبرون ان العنف يمارس في مدارسهم، لترتفع نسبة الطلاب عام 1998 الى 41%(2).
وهناك دراسة أخرى، أجريت عام 1996، لقياس وتواتر العنف المدرسي، شملت 14000 تلميذ جاءت اجابتهم عن السؤال: "هل هناك عنف فـي مدرستك"، كالاتي: ضخم: 50%، كثير: 12%، متوسط: 19%، قليل: 43%، غائب كلياً 18%، لا جواب: 2%(3).
وفي 5/3/1997 أجرت وزارة التربية دراسة على الصعيد القومي، شملت 5816 مؤسسة من أصل 6513، وأسفرت عن رسم خطة حكومية لمكافحة العنف، ومنذ منتصف آذار 1998 بدأ إصدار جريدة اسبوعية للعنف المدرسي بهدف الحد من هذه الظاهرة
اللافت في هذه النسب تدخل الاهل من أجل تصفية الحسابات بأنفسهم، غير ان دراسة صدرت خلال العام الدراسي 1996 ـ 1997، أظهرت انخفاضاً في نسبة التدخل من خارج المدرسة، خصوصاً في المدارس الثانوية، كما ظهر ان العنف مرتبط، على الخصوص، بسن المراهقة بين الثالثة عشرة والسابعة عشرة، وبالذكور أكثر من الاناث، وهي تذهب الى ان معظم التلاميذ المراهقين الذين يهمشهم النظام المدرسي ينزعون الى التضامن ويشكلون خلايا تناهض سياسة المدرسة وقيمها، وهكذا تتكون مع الوقت أنظمة مضادة تجد أرضاً خصبة في المدارس لأنها مكان للتجمع وللانسجام في السن وللاستقلال عن الاهل، وتقوم هذه الانظمة على قواعد مثل التطرف الديني أو العرقي أو السياسي او موسيقى البوب والروك أو المخدرات، وفيها يتحول المنحرفون أبطالا، وينقسم الصف الى قسم يوالي المدرسة وآخر يعارضها.
أما ضحايا العنف فقد تبين، حسب آخر احصاءات لوزارة التربية الفرنسية، ان التلاميذ هم الاكثر تعرضاً للعنف المدرسي: نحو 70% من الضحايا هم تلاميذ، تليهم المؤسسة من تعرضها لتخريب الممتلكات: نحو 15%، ثم معلمو وموظفو المدرسة: 15%.
رأينا حتى الآن حجم العنف المدرسي أنواعه وضحاياه، سواء أكانوا معلمين أم موظفين أم تلاميذ أم ممتلكات، وكنا قد عرضنا سابقاً في هذه الدراسة أثر التربية العائلية والتعليم المدرسي على سلوك الافراد وتصرفاتهم وردود فعلهم، وبكلام آخر ان التربية العائلية الجيدة والتعليم الناجح لا يمكن ان يؤدي الى ممارسات عنيفة كالعنف المدرسي، اذاً، ما هو مصدر هذا العنف وأسباب تفشيه في معظم المجتمعات المتطورة وغير المتطورة؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ التربية الاسرية؟ طريقة التعليم؟ نظرة المعلم الى التلاميذ؟ سياسة المدرسة والمجتمع بتجاهلها طبيعة التلميذ والفوارق الفردية؟
تكاد الدراسات تجمع على أن اسباب العنف المدرسي تنقسم الى قسمين: قسم خارجي وقسم دخلي. الاسباب الخارجية ناتجة عن وجود طبقات شعبية فقيرة يكتنفها الكثير من الحرمان والبطالة وبالتالي سوء التربية العائلية. اما الاسباب الداخلية فهي ناتجة عن السياسة التربوية والطرق التعليمية المتبعة في المدرسة من جهة، وعن الرسوب المدرسي من جهة أخرى، والمقصود بالسياسة التربوية نظام المدرسة القاهر(contraignant) المتعلق بالتوق! يت او البرنامج أو بنظم الادوات والوسائل المستعملة.
اما الطرق التعليمية المتبعة فتترجم بعلاقة المعلم مع التلاميذ، وكأن المعلم انسان مقدس تكون أوامره منزلة غير قابلة للنقاش دون الاخذ بعين الاعتبار آراء التلاميذ، وأوضاعهم المختلفة وفوارقهم الفردية، علماً ان التعليم يقتضي معرفة الاصغاء لاقتراحات الطلاب، كما ان العقاب يحصل في أغلب الاحيان من اجل العقاب وتنفيس الغرائز العدوانية المكبوتة وليس من اجل اصلاح التلاميذ، وبكلام آخر، ان العقاب يمارس كأمر نهائي دون تبريره أو تعليله.
كما تترجم علاقة المعلم غير المتوازنة مع التلاميذ بغياب الوقت المخصص للتلاميذ خارج نطاق الدرس أو الصف، ان تكريس ساعات معينة لدرس أوضاع التلاميذ وللاطلاع على مشاكلهم وتفهم حالاتهم من شأنه ان يخفف ظاهرة العنف.
ومن هذه العوامل أيضاً رسوب التلاميذ وتوبيخهم أمام زملائهم بكلام لاذع وعدائي دون ان يدرك المعلم ان أسباب رسوبهم قد تكون عائدة أحياناً الى أوضاعهم الاقتصادية والعائلية (بطالة ونزاعات عائلية وتيتّم)).
كذلك يجيبنا دو باكييه عن عوامل العنف بتقسيمها الى قسمين: عوامل خارجية وعوامل داخلية، ويصنف العوامل الخارجية كالآتي:
1. العامل الاقتصادي:
الاقتصاد الفرنسي قائم لا على التعاون، بل على المنافسة والاحتكار، الامر الذي يؤدي الى هيمنة الاقلية وتفاقم البطالة وبالتالي الى بروز الروح العدائية وعدم التسامح والتساهل مع الاخرين.
2. العامل الاجتماعي:
التفاوت بين الطبقات، خصوصاً من حيث الغنى والفقر، يخرق ميزان العدالة الاجتماعية. يضاف الى هذا ارتفاع عدد الاجانب في فرنسا (نحو أربعة ملايين)، خصوصاً نسبة المراهقين الذين يعانون مشكلة اندماج اجتماعي وينزعون الى تشكيل مجتمعات منعزلة.
3. العامل التربوي العائلي:
تعاني الاسرة المعاصرة تفككاً كبيراً، خصوصاً من جراء الطلاق. ويعيش العديد من الاحداث مع واحد فقط من الوالدين، مما يؤدي الى ميوعة التنشئة الاجتماعية وعدم استقرار وخلل في تطبيق القواعد التربوية الاسرية التي تكلمنا عنها سابقاً في هذه الدراسة.
4. العامل الثقافي:
تشهد المجتمعات أنظمة شبابية على هامش النظام الاجتماعي العام، مع هيمنة او سيادة النسبية في الاخلاق وبروز قيم "الحرية" و"التحرر" و"الحقوق"، بعيداً عن قيم الالتزام الاجتماعي واحترام حقوق الآخرين والعمل لتحقيق أهداف مشتركة.
5. أثر التلفزيون:
بعض القنوات التلفزيونية تشجع الانظمة الشبابية المستقلة، وتقدم العنف كما لو كان أمراً عادياً ومقبولاً، لا بل جميلاً، فيما تتجاهل فاعليات الامر الواقع الأثر السلبي للتفزيون.
** أما العوامل الداخلية للعنف المدرسي فأهمها الآتي:
1. الرسوب الدراسي:
معظم المدرسين وفلاسفة التربية يردّون العنف المدرسي الى الاخفاق في الدراسة.
2. التربية الحديثة: يرى دو باكييه في الاصلاحات التربوية الحديثة العامل الرئيسي للرسوب المدرسي وبالتالي للعنف المدرسي، ففي رأيه ان المدرسة الابتدائية، وهي مهد الاعداد التربوي، انحرفت عن النموذج التقليدي القائم على تعليم القراءة والكتابة والحساب وباتت تدفع نحو 20% الى المرحلة المتوسطة شبه جاهلين في هذه المعارف الأولية، ومن لا يتعلم القراءة بعيد السادسة والسابعة ينزع الى رفض المدرسة والمعلم، كما ترفضه المدرسة، ولن يستطع متابعة أي تحصيل علمي على الوجه الصحيح بعد ذلك الحين.
3.مدير المدرسة:
ان شخصية مدير المدرسة وقدرته الادارية والانسجام بينه وبين الجسم التعليمي من العوامل الحاسمة في التصدي للعنف المدرسي، لكن في معظم الاحيان تكون العلاقة، بين المدير والجسم التعليمي غير منسجمة وغير متوازنة، وهذا يؤدي الى خلل في العلمية التعليمية، ومن مظاهرة أعمال العنف.
4. المدرسون:
صحيح ان هناك مدرسين ذوي كفاية وضمير وإقدام، لكن هناك مدرسين سيئين، لا يتمتعون على الاطلاق بالمواصفات الضرورية التي يجب ان يتحلى بها المعلم (وكنا قد أسهبنا الكلام عنها في هذه الدراسة)، وبالتالي يعززون العنف عبر عجزهم عن التعليم وعن إدارة الصفوف، وبعض هؤلاء لا يكترث لمصلحة التلاميذ وينظر إليهم كوسائل وأدوات من أجل تحقيق مآربه وليس كغايات بحد ذاتها كما أشرنا سابقاً.
5. بناء المدرسة وعدد تلاميذها:
تبيَّن ان المدراس التي تتصف بجمال هندسي وفسحات خضراء وصالات رحبة تشهد عنفاً أقل من تلك التي لا تلبي هذه الشروط، كما تبين ان العنف يزداد مع ازدياد عدد التلاميذ.
_________________________________________________
-الحلول وكيفية تفادي العنف المدرسي.
ان كشف أسباب ظاهرة العنف المدرسي يشكل الخطوة الاولى لمعالجتها والتصدي لها، لذلك نرى الحلول لمواجهة هذه الظاهرة تندرج تحت بابي العلاج والوقاية.
بالنسبة الى العلاج، نرى ان أي كبح فعّال للعنف المدرسي يجب ان يكون مرتبطاً بسلسة عقوبات واضحة ومحددة تنتمي الى مجموعة قوانين مترابطة يفرضها مجلس إداري، ويجدر ان تنسجم العقوبة مع حجم الجرم، فيتصدى رئيس المدرسة للافعال الصغيرة، وتحال الافعال الاقوى على مجلس المدرسة التأديبي، فيما تقع الافعال الجسيمة، مثل العنف الجسدي والاعتداء الجنسي وحمل السلاح وابتزاز المال بالتهديد وبيع المخدرات، تحت طائلة القانون المدني.
أما الوقاية فمن مسؤولية وزارة التربية، ويمكن ترجمتها تحت ثلاثة أبواب:
1. من الناحيتين الانسانية والاجتماعية، يجب إعطاء أولوية للتربية الاخلاقية، وهذا يحتم ايضاح حقوق التلاميذ وواجباتهم عبر عقد خطي بين المؤسسة من ناحية والتلميذ وذويه من ناحية أخرى. وعلى المدرسين احترام التلاميذ ومساعدتهم في كل مشكلة يواجهونها، مثل سوء المعاملة والاستغلال الجنسي والوصول في الوقت المطلوب وتصحيح الفروض والامتحانات ضمن مهلة محددة. وهذا يعني اختيار المدرسين على اسس مدروسة تحدد كفاءتهم ونظرتهم لعملهم وللتلميذ.
2. من الناحية الادارية
،يجب اختيار الاداريين على أسس واضحة أيضاً، تجمع بين الكفاية العلمية والادارية والرجاحة الخلقية. وكما تستتبع تنشئة المعلمين دورات مستمرة، هكذا تستبع تنشئة الاداريين دورات في التدريب الاداري.
3. من الناحية التربوية،
ينبغي تنشئة التلاميذ، منذ المرحلة الابتدائية، على التعبير الشفوي والكتابي بلغة جلية، من أجل عرض أفكارهم بوضوح واجتناب الوقوع في الغموض وسوء التفاهم. ومن الضروري تقوية روح الانجاز والابداع لدى التلاميذ عبر توزيع الجوائز واعتماد لوائح الشرف، مع تشجيع التلاميذ الضعفاء. والحق أن كل تجنب للعنف المدرسي يجب أن يمرّ في التصدي للاخفاق في الدراسة.
وأخيراً، وبعدما رأينا، من خلال هذه الدراسة، العلاقة المباشرة بين العنف المدرسي والتربية العائلية من جهة والعنف المدرسي والتعليم وأساليبه من جهة أخرى، وبعدما لاحظنا ان الوضع الاسري الاقتصادي والاجتماعي والتربوي يساهم في ارتفاع وتيرة العنف المدرسي، كما ان نظرة المعلم للتلميذ والاساليب المتبعة التي لا تضع التلميذ على رأس سلم القيم تؤدي الى الاخفاق المدرسي وبالتالي الى العنف، فقد آن الأوان لوعي أهمية التربية العائلية المتزنة ـ حتى ولو كان الوضع الاقتصادي متأزماً ـ التي من شأنها ترسيخ القيم الانسانية والاجتماعية ترسيخاً مطلقاً. عندئذٍ مهما كانت معاناة الفرد المادية، فإن قيمه الانسانية الراسخة في داخله تستطيع ان تتحدى المشاكل التي تعترضه، فيواجهها بالتساهل والتفهم والمحبة.
كما حان الوقت لوعي المعلمين أهداف مهنتهم التي تضع التلميذ في رأس القيم، وبالتالي لممارسة مهنتهم انطلاقاً من النظر الى التلميذ كغاية رئيسية والى التعليم كوسيلة من أجل بناء التلاميذ وتطويرهم وبالتالي تطوير المجتمع.[/td][/tr]